سهـرة في السمـاء- قصـص مراقـب جوي يحمـي سمـاء الرياض.

المؤلف: منيف الحربي11.05.2025
سهـرة في السمـاء- قصـص مراقـب جوي يحمـي سمـاء الرياض.

في إحدى ليالي نوفمبر الشاعرية، بينما كانت الرياض تلفها عباءة الليل المخملية، غادر نايف منزله قرابة التاسعة مساءً. كان ذهنه منشغلاً بصغيره الذي ألمّت به حمى مفاجئة، إلا أن تفكيره كان مشدوداً أيضاً إلى سهرة عمل استثنائية تمتد حتى بزوغ الفجر. حرص الأب على إحكام غطاء كوب قهوته الكوستاريكية الفاخرة، ثم قام بربط حزام الأمان، وانطلق متوجهاً صوب المركز الإقليمي للمراقبة الجوية في مطار الملك خالد الدولي. عندما وصل، كانت الساعة قد قاربت العاشرة إلا ثلثاً. لم يكن نايف وحيداً؛ في نفس اللحظة، وصل أيضاً اثنان وعشرون مراقباً جوياً آخر، دخلوا بكل حيوية إلى قاعة العمليات، كفريق رياضي يدخل أرض الملعب، إلا أن مباراتهم تمتد لثماني ساعات كاملة، وملعبهم هو الفضاء الرحب، حيث لا يوجد أي هامش لأي خطأ عابر أو هفوة بسيطة. استقر المراقبون الجويون في أماكنهم المعهودة، أجسامهم على المقاعد بينما قلوبهم معلقة في السماء. كان من نصيب نايف تولي مسؤولية الجزء الشمالي من الأجواء السعودية. وبينما كان يجمع شتات أفكاره على مقعده الوثير، كانت سحابة ركامية نشطة تمتد بين تبوك وعرعر باتجاه الجنوب الشرقي، على ارتفاعات شاهقة جداً. أدرك نايف من خلال الطلبات المتوالية من الطيارين، أن هذا الحزام السحابي سيؤثر بشكل ملحوظ على انسيابية الحركة الجوية، مما سيضطر الطائرات إلى تغيير مساراتها وارتفاعاتها. هذا الأمر يتطلب تركيزاً مضاعفاً وتفكيراً أكثر عمقاً وتدقيقاً. بالطبع، لا يعلم المسافرون على متن رحلة الخطوط الجوية الأردنية المتجهة من عمّان إلى بانكوك شيئاً عن المجهود الكبير الذي بذله المراقب الجوي لتأمين ارتفاع آمن لهم وهم يعبرون سماء القريات. ولا يدرك ركاب الخطوط المصرية القادمة من أبوظبي إلى القاهرة شيئاً عن المناورات الدقيقة التي قام بها طاقم القيادة للالتفاف بمهارة حول السحب الكثيفة، ولا الجهد الذهني المركّز الذي بذله المراقب الجوي في حديثه المتواصل الذي يحمل في طياته الكثير من التوجيهات والإرشادات. وينطبق الأمر ذاته على ركاب طائرة الخطوط الإماراتية المسافرة من سرقسطة إلى دبي، وطائرة الخطوط المغربية المتجهة من الدوحة إلى الدار البيضاء، وغيرها الكثير من الطائرات التي تعبر الأجواء بين مختلف مدن العالم. لا يتخيل أحد التفاصيل المرهقة لسهرة عمل حافلة بالتحديات مع سحابة بعيدة، ولا يستوعب معظم الناس معنى أن تكون مراقباً جوياً تجلس في قلب الرياض وتتحدث مع طيارين من جنسيات مختلفة يتواجدون فوق السحاب، ويعبرون أجواء رفحاء والجوف وطريف وصولاً إلى البحر الأحمر، مستشعراً الدور المحوري الذي يلعبه ضمن منظومة الطيران التي تسعى جاهدة لتأمين سلامة جميع المسافرين. مواقف يومية لا تنتهي، وحكايات متكررة ومتجددة باستمرار، يظل معها الالتزام بمعايير السلامة والأمان مبدأً راسخاً لا يمكن التهاون به أو إغفاله ولو للحظة واحدة. ينتهي وردية عمل نايف في تمام الساعة السادسة صباحاً، ويعود إلى منزله بينما خيوط الشمس الذهبية تداعب الأفق، حيث تنتظره تفاصيل أخرى وحياة جديدة مع دعوات وأمنيات بأن يمنّ الله على ابنه الصغير بالشفاء العاجل والتعافي الكامل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة